في ما يلي نص الرسالة الملكية التي تلاها السيد عمر القباج مستشار صاحب الجلالة:
"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه ٬
فخامة السيد رئيس جمهورية تانزانيا المتحدة٬
أصحاب الفخامة والمعالي٬ رئيسة ورؤساء الدول والحكومات٬
أصحاب المعالي والسعادة٬
حضرات السيدات والسادة٬
يطيب لي أن أتوجه بهذا الخطاب إلى الاجتماعات السنوية للبنك الإفريقي للتنمية٬ التي تلتئم هذه السنة على أرض جمهورية تانزانيا الشقيقة.
وأود بداية أن أعبر لفخامة الرئيس جاكايا أمريشو كيكويتي٬ ولشعب وحكومة تانزانيا٬ عن امتنان المملكة المغربية٬ على احتضانهم لهذا الملتقى الإفريقي٬ الذي سيخصص للتحديات المطروحة أمام قارتنا٬ وللفرص المتاحة أمامها٬ وكذا للمكانة التي ينبغي أن تتبوأها في عالم مطبوع بشتى التحولات.
كما نعبر لمحافظي البنك الإفريقي للتنمية٬ ولمجلسه الإداري ولرئيسه٬ عن تنويهنا بالجهود القيمة التي يبذلونها٬ ولما وفروه لهذه الاجتماعات من أسباب النجاح.
وأغتنم هذه المناسبة٬ للإشادة أيضا بتسييرهم الجيد لهذه المؤسسة٬ وهو ما مكنها من تعزيز مكانتها كأول بنك للتنمية في قارتنا٬ بالرغم من الظرفية الصعبة التي يجتازها الاقتصاد العالمي.
وإننا لواثقون من أن هذه المؤسسة٬ بفضل تعبئة كل كفاءاتها وطاقاتها٬ ستتمكن من الحفاظ على مكتسباتها٬ واستشراف مستقبلها بمزيد من التفاؤل٬ وتوسيع إشعاعها على الصعيدين القاري والدولي.
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة٬
حضرات السيدات والسادة٬
إن اجتماعاتكم لهذه السنة٬ تأتي في سياق اقتصادي دولي يتميز باستمرار تداعيات الأزمة العالمية٬ وما يواكبها من تخوفات ومخاطر٬ ومن عدم وضوح الآفاق المستقبلية المتعلقة بالنمو والإنتعاش الاقتصادي.
وإذا كانت اقتصادياتنا ما تزال تظهر قدرتها المتميزة على مواجهة هذه الإكراهات٬ مما مكن إفريقيا من تبوئ المرتبة الثانية بعد آسيا من حيث معدلات النمو٬ فإن قارتنا ليست بمنآى عن تدعيات الأزمة العالمية الراهنة.
وبينما تسجل بعض الاقتصاديات الإفريقية معدلات نمو جد مرتفعة٬ فإن العديد من الدول قد تخلف٬ مع الأسف٬ موعدها مع أهداف الألفية للتنمية٬ لاسيما في ظل استمرار ارتفاع معدلات الفقر بها٬ بالرغم مما تزخر به قارتنا من موارد طبيعية وبشرية هائلة٬ وما تعرفه من دينامية عميقة للتغيير.
لقد فرضت إفريقيا وجودها اليوم٬ كقارة منفتحة على المستقبل٬ قادرة على الانخراط في مجالات قطاعية متميزة بالحيوية٬ كالبنيات التحتية والتكنولوجيات الحديثة٬ والطاقات المتجددة والسياحة.
بيد أنها توجد اليوم مجددا في مفترق الطرق.فهي تشكل فضاء شاسعا يزخر بالعديد من الفرص الاقتصادية٬ وقطبا حقيقيا للنمو في أعلى مستوياته.وهي في نفس الوقت٬ في حاجة إلى انطلاقة تنموية جديدة٬ وإلى تعبئة قوية لمواردها البشرية و الطبيعية٬ متطلعة بكل أمل٬ إلى دعم أكبر من المجتمع الدولي. لذا٬ فإن الدول الإفريقية مدعوة٬ أكثر من أي وقت مضى٬ إلى تأهيل مواردها البشرية٬ومواصلة الإصلاحات الهيكلية٬ ووضع سياسات اقتصادية واجتماعية ملائمة٬ ومحفزة للاستثمار والتشغيل والنمو الشامل. وإذا كان المغرب قد استطاع٬ بصفة عامة٬ مواجهة انعكاسات الأزمة العالمية٬ فلأنه اختار٬بكل وعي٬ النهج القويم للتنمية المندمجة والحكامة الاقتصادية الجيدة٬ حريصا على تحقيق الانسجام والتكامل بين الأبعاد المؤسساتية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية. وفي هذا الصدد٬ فإن المغرب٬ سواء بفضل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية٬ التي أطلقناها سنة 2005٬ أو من خلال فتح و إنجاز العديد من الأوراش الكبرى٬ في مجالات البنيات التحتية٬ واعتماد استراتيجيات قطاعية طموحة٬ وإصلاح منظومة التربية والتكوين٬ وتوسيع التغطية الصحية٬ قد تمكن من توطيد دعائم نموذج تنموي متوازن ومندمج٬ محققا بذلك تقدما ملموسا في مجالات الرفع من الدينامية الاقتصادية٬ ومحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء.
كما أن الإصلاحات المؤسساتية التي أقدمت عليها المملكة مؤخرا من خلال إقرار دستور جديد ٬ كرست هذا الخيار الذي لا رجعة فيه ٬ ومكنت البلاد من مرجعية متكاملة ومتقدمة في مجال الحكامة الاقتصادية .
وفي هذا الإطار٬ فقد تم ترسيخ مبادئ اقتصاد السوق الاجتماعي٬ والحق في الملكية٬ وحرية المبادرة٬ والمنافسة الحرة٬ فضلا عن تكريس مبادئ توازن المالية العمومية ٬ واستقلالية البنك المركزي وسلطات التقنين والضبط والهيئات المكلفة بالحكامة الجيدة والديمقراطية التشاركية .كما تمكنت المملكة من تعزيز منظومتها الوطنية في مجال الشفافية ومحاربة الرشوة ٬ وتكريس ميثاق رائد للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة٬ حضرات السيدات والسادة٬
إن المملكة المغربية تضع القارة ٬ التي تنتمي إليها ٬ في صلب اهتماماتها على الصعيدين الإقليمي والدولي . فالمغرب حريص أشد ما يكون الحرص على تفعيل تعاون ناجع ومتضامن مع أشقائه الأفارقة٬ وبصفة أكثر شمولية ٬ على صعيد الشراكات القائمة بين دول الجنوب.
ومن هذا المنطلق ٬ فقد أكد المغرب ٬ على الدوام ٬ التزامه بتحقيق الوحدة والتضامن الإفريقيين ٬ من خلال إطلاق العديد من المبادرات والأنشطة الملموسة ٬ واعتماد التنمية البشرية والمستدامة لفائدة القارة الإفريقية والإنسان الإفريقي.
وإن المغرب٬ الذي يعتز بدعمه لكافة الحركات التحررية الأصيلة٬ منذ حصوله على الاستقلال٬ لن يدخر اليوم أي جهد لتقاسم تجربته وخبرته مع الدول الإفريقية الشقيقة٬ في كافة الميادين التنموية.
ذلكم هو النهج الذي اعتمده المغرب مع عدد من البلدان الإفريقية الشقيقة٬ في القطاعات الاجتماعية الأساسية٬ وفي مختلف الميادين المرتبطة بالتكوين والتعاون التقني٬ الذي يسعى المغرب إلى توسيع فضاءاته ليشمل قطاعات الاستثمار المنتج والنقل الجوي والبحري والخدمات المالية والبنكية.
إننا نضع العنصر البشري في صلب الإصلاحات والاستراتيجية التنموية التي نقدم عليها. كما نبوئه أيضا مكانة محورية في الشراكات التي يقيمها المغرب مع نظرائه من الدول الإفريقية٬ سواء على الصعيد الثنائي٬ أو في إطار التعاون الثلاثي.
كما أننا نعتبر هذه العلاقة التي تجمع المغرب بشركائه في إفريقيا٬ نموذجا حقيقيا للتعاون جنوب-جنوب٬ ورصيدا ثمينا لشعوبنا. لذا ينبغي العمل على تعميقها٬ وإفساح المجال أمامها للاستفادة من إمكانات جديدة٬ وأشكال مبتكرة للعمل المشترك٬ بما يخدم مصالح الشعوب الإفريقية٬ ويساهم في تحقيق الرخاء والازدهار لها.
إن الأمر يتعلق بمطلب جوهري٬ يسائل الحكومات والفاعلين المؤسساتيين٬ شأنهم في ذلك شأن المجتمع المدني والقطاع الخاص في إفريقيا٬ ويطالبهم بتكثيف هذا التعاون٬ وضمان شروط استمراريته٬ وجعله أكثر دقة ونجاعة.
ذلك أن تعميق التعاون الإفريقي والشراكة بين دول الجنوب٬ لا يعد ضرورة أخلاقية فحسب٬ بالنظر إلى القيم التي نتقاسمها٬ وإنما هو أيضا شرط من الشروط الأساسية لبلوغ النجاعة والفعالية المنشودتين. إنه توجه لا محيد عنه٬ في إطار السعي إلى تعبئة كافة الطاقات الإفريقية لخدمة التنمية المنسجمة والمستدامة في إفريقيا. كما ينبغي الإقرار بأن الأمر يتعلق بمجال يتعين علينا أن نتحلى فيه بالمزيد من الإقدام والابتكار.
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة٬
حضرات السيدات والسادة٬
إننا نثمن قرار البنك الإفريقي للتنمية٬ الذي يغتنم مناسبة انعقاد هذه الاجتماعات السنوية٬ لإغناء المسلسل الرامي إلى بلورة استراتيجيته العشرية الجديدة للمدى البعيد 2013- 2022 .
وإن المملكة المغربية لمقتنعة بأن هذه الاستراتيجية ستشكل إطارا مرجعيا بالغ الأهمية٬ سواء لعمل مجموعة البنك الإفريقي للتنمية أو لكافة المؤسسات المالية والجهات المانحة٬ العاملة بالقارة٬ وفي هذا الإطار٬ فإن البنك الإفريقي للتنمية يواجه تحديا مزدوجا٬ يتمثل من جهة٬ في ترسيخ دوره المتميز كأول مؤسسة لتمويل التنمية الإفريقية٬ ومن جهة ثانية٬ في العمل على استكشاف المجالات المنتجة وذات الأولوية التي ينبغي أن تستهدفها مجهودات التنمية٬ فضلا عن تعبئة الموارد التمويلية.
وإننا لمرتاحون لآفاق العمل المستقبلي للبنك الإفريقي للتنمية٬ معتبرين أن جودة تدخلاته٬ والثقة والمصداقية التي يحظى بها لدى المساهمين فيه٬ تشكل الدعامات الأساسية لنجاح عمله٬ وتتطلب مواصلة تعزيزها لمواكبة مشاريع الدول الإفريقية الأعضاء٬ بكل نجاعة وتنافسية.
لذا٬ فإن البنك الإفريقي للتنمية مدعو لدعم أوراش التحول الاقتصادي لبلدان القارة٬ وتأهيلها وإعادة تموقعها ضمن سلاسل الإنتاج العالمي.
إن الأمر يتعلق بأوراش متعددة ومصيرية٬ تهم مواصلة إنجاز البنيات التحتية٬ ومجالات النقل والطاقة والاتصال٬ وكذا برامج التجهيزات والخدمات الاجتماعية الأساسية٬ كمحاربة الفقر والولوج إلى التعليم والصحة والماء الصالح للشرب.
وفي هذا الصدد٬ فإن البنك الإفريقي للتنمية مدعو أيضا لتعزيز مواكبته لتطوير الفلاحة الإفريقية٬ والإصلاحات الهيكلية٬ والاستراتيجيات التي تهدف إلى الرفع من التنافسية وإلى جلب الاستثمارات الأجنبية.
كما أن عمل هذا البنك ينبغي ان يتوجه لدعم القطاعات الواعدة٬ والأقطاب الجديدة للتنمية بإفريقيا٬ التي تقوم على الابتكار٬ وتستفيد من فرص العولمة٬ هذه الأقطاب التي تعزز الصورة الإيجابية لإفريقيا منخرطة في مسار التحول. وإن الاقتصاد الأخضر٬ والطاقات المتجددة٬ والفلاحة المستدامة٬ والتكنولوجيات الحديثة٬ والقطاعات المالية٬ تشكل كلها مجالات للنهوض بالتنمية٬ ولتوفير فرص الشغل للأجيال الإفريقية الصاعدة٬ التي تتطلع بكل مشروعية٬ إلى مستوى أفضل من التقدم والرخاء.
وتظل الحكامة الجيدة هي التحدي الأكبر الذي يتعين على البنك الإفريقي للتنمية رفعه٬ بمعية المجموعة الإفريقية٬ ذلك أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تنمية أو استثمار أو نمو٬ بدون حكامة جيدة. وهو ما يتطلب من إفريقيا أن تكون أقل تبعية للمساعدة الدولية٬ وأن تعتمد على رأسمالها الطبيعي والبشري٬ وتقوم بتعبئة مواردها الذاتية٬ بكل شفافية ومسؤولية٬ وفي إطار مبدإ المحاسبة.
وبموازاة ذلك٬ فإن على البنك الإفريقي للتنمية الحفاظ على قدراته التنافسية الشاملة٬ والتي تمر حتما عبر تعبئة التمويلات ذات الكلفة المعقولة والجذابة لصالح زبنائه٬ خصوصا من بين الدول ذات الدخل المتوسط.
وأخيرا٬ وإدراكا منه للآثار السلبية لتجزئة المشهد السياسي والاقتصادي للقارة٬ ما فتئ المغرب يعمل على تحقيق الاندماج الاقتصادي الإقليمي في إفريقيا. وهو خيار لا محيد عنه اليوم٬ في عصر لا يؤمن إلا بالتكتلات الإقليمية٬ وبمناطق الإنتاج والتبادل الأكثر اتساعا واندماجا.
وفي هذا الصدد٬ يظل المغرب٬ على المعهود فيه٬ دائم الاستعداد لدعم أي مبادرة للبنك الإفريقي للتنمية٬ تتوخى تجسيد دينامية الاندماج الاقتصادي الإقليمي.
كما أننا على يقين بأن المؤهلات الاقتصادية التي تتوفر عليها قارتنا ستشهد تطورا أكبر وستشمل فضاءات أوسع ٬ إذا ما تم تعزيز العلاقات الإفريقية - الإفريقية بشكل أعمق على مستوى المبادلات والتواصل والاستثمارات المشتركة ٬ وبخاصة في إطار تكتلات حقيقية وفعالة على المستوى شبه الإقليمي.
أصحاب المعالي والسعادة٬
حضرات السيدات والسادة٬
تلكم بعض الأبعاد التي نعتبرها أساسية في العمل المستقبلي للبنك الإفريقي للتنمية ٬ وبصورة أشمل ٬ بالنسبة لتحقيق التنمية بإفريقيا .
وإننا لنتطلع إلى أن تساهم هذه الاجتماعات السنوية في تعزيز عمل هذه المؤسسة وأن تمكن من تحديد الأولويات الحقيقية للقارة والسبل والوسائل الملائمة للتصدي لها.
وإذ نجدد عبارات شكرنا الجزيل لحكومة جمهورية تنزانيا المتحدة ولرئيس البنك الإفريقي للتنمية ومجلس إدارته ٬ فإننا نعبر لكل المشاركين في هذه الاجتماعات ٬ عن متمنياتنا الصادقة بكامل التوفيق والنجاح في أعمالهم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".